أولاً: ما معنى كلمة "ركود" في أمريكا؟
الكثيرون يعرفون القاعدة الشعبية: ربعين متتاليين من نمو سلبي في الناتج المحلي الإجمالي (GDP) = ركود.
لكن في الولايات المتحدة هناك مؤسسة مستقلة اسمها National Bureau of Economic Research (NBER) — المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية — هي المرجع الرسمي في تحديد بداية ونهاية الركود.
NBER لا تنظر فقط إلى الناتج، بل تعتمد على ثلاثة عناصر أساسية:
العمق: أن يكون التراجع ملحوظًا وكبيرًا.
الانتشار: أن يؤثر على معظم القطاعات وليس قطاعًا واحدًا فقط.
المدة: أن يستمر لعدة أشهر وليس مجرد فترة عابرة.
لذلك أحيانًا يشعر المواطن أن الاقتصاد "منهار"، بينما رسميًا لم يعلن الركود بعد لأن بعض القطاعات لا تزال قوية.
ثانياً: ماذا يقول الاقتصاديون عن الوضع الحالي؟
هنا يظهر دور باسكال ميشايا، أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا، وهو أيضًا باحث مشارك في المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية.
ميشيا يرى أن طريقة NBER التقليدية فيها مشكلتان:
تعطي وزنًا ضعيفًا لسوق العمل (البطالة + الوظائف الشاغرة).
تصل متأخرة: غالبًا ما يعلن الركود بعد أشهر من حدوثه فعليًا.
لهذا السبب قام بتطوير خوارزمية للكشف عن الركود في الوقت الحقيقي.
هذه الخوارزمية دُرِّبت على أكثر من قرن من بيانات سوق العمل في أمريكا، وتستخدم مؤشرات دقيقة مثل:
عدد الوظائف الشاغرة (Job Vacancies).
معدل البطالة (Unemployment Rate).
النتيجة؟ في مايو 2025، حسب خوارزمية ميشيا، كان هناك 71% احتمال أن أمريكا دخلت فعلاً في ركود، حتى لو لم يُعلن ذلك رسميًا بعد.
والكثير من الأمريكيين يوافقون على هذا التقييم. ففي استطلاع أجرته The Economist/YouGov بداية أغسطس، قال ما يقارب نصف المشاركين إن الاقتصاد الأمريكي "يصبح أسوأ"، بينما اعتقد نحو ثلث المستطلعين أن البلاد دخلت بالفعل في ركود، و15% لم يكونوا متأكدين.
هذا يعكس فجوة كبيرة بين البيانات الرسمية التي تؤكد عدم وجود ركود، وبين شعور الناس اليومي في وظائفهم ومحافظهم المالية. بعبارة أخرى، حتى لو لم يُعلن NBER رسميًا، فإن التجربة المعيشية للأمريكيين تشبه الركود بالفعل.
ثالثاً: ما الذي أظهرته البيانات الحديثة؟
تقرير الوظائف لشهر أغسطس: أضاف الاقتصاد فقط 22 ألف وظيفة جديدة، وهو رقم ضعيف جدًا مقارنة بالمتوسط التاريخي، وارتفع معدل البطالة إلى 4.3%.
القطاعات السلعية (التصنيع، الزراعة، البناء): تعاني بشدة بسبب الفوائد المرتفعة ورسوم ترامب الجمركية.
الولايات: تحليل Mark Zandi (Moody’s Analytics) أظهر أن ثلث الناتج تقريبًا في ولايات إما دخلت في ركود أو على وشك الدخول. لكن ولايات ضخمة مثل California, Texas, New York ما زالت صامدة وتحمي الصورة الوطنية.
رابعاً: من يبقي الاقتصاد واقفاً؟
رغم الصورة القاتمة، هناك أربع محرّكات تضيف بعض القوة:
الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence - AI):
طفرة بناء مراكز البيانات والاستثمار في تقنيات AI أضافت ما يقارب نصف نقطة مئوية للنمو. بدونها كان النمو في النصف الأول من 2025 شبه متوقف.الرعاية الصحية (Healthcare):
تقريبًا كل نمو التوظيف في الأشهر الأخيرة جاء من وظائف في القطاع الصحي والاجتماعي. هذا ليس مؤشرًا على "طفرة إنتاجية"، بل على الطلب المتزايد على الخدمات الصحية.إنفاق الأثرياء (High-Income Households):
المستهلكون من الطبقة الغنية ما زالوا ينفقون بقوة، مستفيدين من ارتفاع الأسهم (S&P 500 قرب قمم تاريخية). بينما المستهلك العادي يعاني من الفوائد المرتفعة وتراجع الأجور الحقيقية.ولايات كبرى تمسك الاقتصاد:
كاليفورنيا وتكساس ونيويورك — معًا يمثلون ثلث الناتج الأمريكي — ما زالوا في حالة "ثبات"، وهو ما يمنع إعلان ركود شامل.رغم الصورة القاتمة، هناك أربع محرّكات تضيف بعض القوة:
طفرة بناء مراكز البيانات والاستثمار في تقنيات AI أضافت ما يقارب نصف نقطة مئوية للنمو. بدونها كان النمو في النصف الأول من 2025 شبه متوقف.
لكن هذه الطفرة ليست شاملة لكل أمريكا، بل كما يوضح Mark Muro، الباحث البارز في Brookings Institution:
“الذكاء الاصطناعي بالأساس تكنولوجيا مدينية كبرى. أغلب مراكزه النجمية (Superstar Hubs) تقع في مدن كاليفورنيا الساحلية، مدن الأعمال في تكساس، والممر الممتد من بوسطن إلى واشنطن.”
هذا التركيز الجغرافي يعني أن منافع AI محصورة في مناطق محددة، وليست موزعة بالتساوي على الولايات أو الطبقات الاجتماعية.
يضيف Muro أن بناء مراكز البيانات (Data Centre Construction) ينتشر الآن عبر الولايات المتحدة، لكنه يؤدي بالأساس إلى طفرة مؤقتة في نشاط البناء، لا إلى توسع مستدام طويل الأجل.
بمعنى آخر: الذكاء الاصطناعي أصبح العمود الأول الذي يمنع الاقتصاد من التباطؤ الكامل، لكنه عمود ضيق ومركّز، وليس قاعدة واسعة يمكن أن تحمي الاقتصاد كله.
خامساً: هل يهم إذا أُعلن الركود أم لا؟
الحقيقة أن النقاش حول كلمة "ركود" قد يكون مضللاً.
في اقتصاد ضخم مثل الولايات المتحدة، يمكن أن يعيش جزء كبير من السكان والولايات حالة ركود، بينما يظل المتوسط الوطني إيجابيًا بسبب نمو ضيق في قطاعات معينة.
لذلك من الأهم أن نسأل: هل النمو الأمريكي مستدام؟
الإجابة: لا. لأنه قائم على أعمدة ضيقة جدًا: الذكاء الاصطناعي، الصحة، وإنفاق الأثرياء.
رؤية مركّب للمستثمر
ركز على الشركات ذات التدفقات النقدية القوية والعقود المتكررة (Software, Healthcare Services).
احذر من القطاعات الدورية (تصنيع، بناء، زراعة) لأنها الأكثر تأثرًا بالركود والفوائد المرتفعة.
استفد من طفرة AI بذكاء: شركات البنية التحتية لمراكز البيانات والبرمجيات المرتبطة بها أقوى من الشركات الناشئة غير المربحة.
حافظ على تنويع دفاعي: جزء من المحفظة في السندات متوسطة الأجل والسيولة للتحوط من أي هبوط مفاجئ في الأسهم.
💡 لمشتركينا في خطة مركّب المدفوعة:
نشارك قائمة محدّثة من أفضل الشركات عالية الجودة التي تستفيد من بيئة التباطؤ الحالية، مع أسعارها العادلة وتوصياتنا للاستثمار طويل الأجل.
إذا أردت الوصول لهذه القوائم الكاملة، رقِّ اشتراكك الآن وابدأ الاستثمار بثقة أكبر.
الخلاصة
رسميًا: NBER لم يعلن ركودًا بعد.
عمليًا: خوارزمية Pascal Michaillat وأرقام التوظيف تلمّح أننا نعيشه بالفعل.
الاقتصاد الأمريكي اليوم أشبه بمبنى كبير يقف على أربع أعمدة ضيقة: الذكاء الاصطناعي، الصحة، الأغنياء، وثلاث ولايات كبرى. أي خلل في أحد هذه الأعمدة قد يُسقط الصورة سريعًا.