تحليل سيناريوهات "يوم التحرير 2.0" وتأثيراتها على النفط والأسهم والذهب والأسواق الناشئة
أولاً: السيناريوهات الثلاثة لـ"يوم التحرير 2.0"
يشير مصطلح "يوم التحرير 2.0" إلى اليوم الذي تعتزم فيه الولايات المتحدة تنفيذ جولة ثانية كبرى من الرسوم الجمركية (الرسوم المتبادلة) تصل حتى 50% على وارداتها، وهو ما أطلق عليه الرئيس الأميركي دونالد ترمب تسمية "يوم التحرير". مع اقتراب هذا اليوم، كانت هناك ثلاثة مسارات محتملة مطروحة:
سيناريو التمديد: تمديد المهلة وتأجيل تنفيذ الرسوم لإفساح المجال أمام المفاوضات.
سيناريو توقيع الصفقات: التوصل إلى صفقات واتفاقيات تجارية جديدة (بين الولايات المتحدة وشركائها مثل الاتحاد الأوروبي أو الصين) تُجنِّب فرض الرسوم الكبيرة.
سيناريو فرض رسوم أحادية: المضي قدمًا في فرض الرسوم الأميركية بشكل أحادي على نطاق واسع دون اتفاق، مما يصعّد الحرب التجارية.
سنستعرض أدناه أثر كل سيناريو على أسواق النفط والأسهم الأميركية والذهب والأسواق الناشئة، مع التفريق بين الآثار قصيرة الأمد المباشرة والتداعيات طويلة الأمد لكل منها.
1. سيناريو التمديد (تأجيل "يوم التحرير 2.0"):
الآثار قصيرة الأمد: يؤدّي تمديد المهلة إلى ارتياح مؤقت في الأسواق. فبتأجيل موعد فرض الرسوم من 1 يونيو إلى 9 يوليو – كما حدث فعليًا في هذه الحالة – شهدنا ارتفاعًا في الأسهم الأميركية والأوروبية وتراجعًا في الإقبال على الملاذات الآمنة، على سبيل المثال، عقب إعلان ترمب تمديد مهلة المفاوضات مع أوروبا، ارتفعت العقود الآجلة لمؤشر S&P 500 وناسداك بحوالي 1%. كما صعدت أسعار النفط في التداولات المبكرة نتيجة انحسار مخاوف تباطؤ النمو العالمي. وفي المقابل، انخفض الذهب بنحو 1% تقريبًا بسبب تراجع الطلب الفوري على الملاذ الآمن بعد زوال خطر الرسوم الفوري. هذا التراجع في سعر الذهب أتى مع إسقاط ترمب تهديده الفوري بفرض رسوم 50% على سلع الاتحاد الأوروبي، مما هدّأ مخاوف المستثمرين. وبالمثل، اتجه المستثمرون إلى وضعية "عزوف عن المخاطرة" بدرجة أقل مع تراجع التهديد الفوري، الأمر الذي دعم أيضًا أسواق الأسهم الناشئة بصورة محدودة في المدى القصير (نظرًا لارتباطها بحركة رؤوس الأموال العالمية).
الآثار طويلة الأمد: على الرغم من الارتياح اللحظي، فإن استمرار حالة عدم اليقين يترك آثارًا سلبية على المدى البعيد.
تأجيل المواجهة التجارية بدون حل حاسم يعني بقاء الشركات والمستثمرين في حالة حذر. وكما أشار محللون، فإن التهديدات التجارية المستمرة "لا تُوفر بيئة مناسبة للاستثمار واتخاذ قرارات التوظيف". لذلك، قد يؤدي التمديد المطوّل إلى إضعاف ثقة قطاع الأعمال وتأجيل خطط الإنفاق الرأسمالي، مما يكبح نمو الأسهم الأميركية مستقبلًا. وفيما يخص
النفط على المدى البعيد، فإن عدم وضوح اتجاه الطلب العالمي بسبب حالة الترقب قد يبقي أسعار النفط مكبوتة نسبيًا – إذ أن الشركات ستتردد في زيادة الإنتاج أو الاستثمار بينما سياسة التجارة العالمية غير مستقرة.
أما الذهب فقد يحتفظ ببعض البريق كملاذ آمن طالما بقي شبح الحرب التجارية قائمًا؛ أي أن الأسعار قد تبقى مرتفعة نسبيًا مقارنة بمستوياتها التاريخية نتيجة عودة المستثمرين إلى التحوّط عند كل جولة توتر جديدة.
وبالنسبة إلى الأسواق الناشئة، فإن طول أمد التوتر يعني بقاء علاوة المخاطر مرتفعة على أصول تلك الأسواق. قد نشهد تذبذبًا مستمرًا في تدفقات المحافظ الاستثمارية إلى الخارج عند كل تطور سلبي في المفاوضات. بيد أنه يجدر التنويه أن كثيرًا من المؤسسات (مثل Capital Economics) رجّحت في ذروة الأزمة أن يتم التوصل في النهاية إلى حل وسط (كفرض رسوم معتدلة بحوالي 10% بدلًا من 50% بشكل دائم)، مما قد يقلل الضرر طويل الأمد مقارنة بالسيناريو الأسوأ. ومع ذلك، تظل الطريق إلى أي اتفاق محفوفة بعدم الاستقرار، مما يعني أن الأسواق ستبقى عرضة للتقلب إلى أن تتضح معالم الاتفاق النهائي.
2. سيناريو توقيع صفقات (حل تفاوضي واتفاق تجاري):
الآثار قصيرة الأمد: يمثل هذا السيناريو التطور الأكثر إيجابية للأسواق. توقيع اتفاقيات تجارية أو صفقات كبرى (سواء مع الصين أو أوروبا) من شأنه تهدئة مخاوف المستثمرين بشكل حاسم. وقد رأينا سيناريو مشابه عندما تم الإعلان عن هدنة تجارية مع الصين في جنيف: حيث:
ارتفعت الأسهم العالمية بقوة مع انتشار موجة تفاؤل بأن الحرب التجارية تتراجع. في تلك الحالة.
تراجع سعر الذهب كملاذ آمن مع انحسار القلق، وارتفع الدولار الأميركي قليلًا بينما انخفضت عملات الملاذ (الين والفرنك السويسري) التي كانت قد صعدت خلال فترة التصعيد
بالنسبة إلى سوق النفط، فإن إنهاء التوترات التجارية يعطي دفعة لتوقعات الطلب العالمي على الطاقة. لذا من المتوقع أن ترتفع أسعار النفط نسبيًا مدفوعة بتحسّن توقعات النمو الاقتصادي العالمي وزيادة الطلب الصناعي على الوقود. وقد لوحظ بالفعل أن أسعار النفط تعرّضت لضغوط انخفاض كبيرة بفعل مخاوف الركود أثناء التصعيد، لذا فإن إزالة تلك المخاوف عبر اتفاق تجاري يعني زوال عامل سلبي كبير.
كما سيؤدي تحسّن الشهية للمخاطرة إلى ارتفاع قوي في الأسواق الناشئة؛ إذ تنخفض علاوة المخاطر وتتدفق رؤوس الأموال إليها من جديد. بالفعل، انخفاض حدة الحرب التجارية خفّض بشكل ملموس المخاطر التي تهدد الأسواق الناشئة ودفع بعض بيوت المال إلى ترقية نظرتها لهذه الأسواق. على سبيل المثال، بعد اتفاق تجارة أميركي-صيني مفاجئ أفضل من المتوقع، اعتبرت مؤسسة مورغان ستانلي أن “مخاطر الذيل” التي كانت تهدد أسهم الأسواق الناشئة قد انحسرت بشكل كبير.
الآثار طويلة الأمد: توقيع صفقات تجارية شاملة سيترك أثرًا إيجابيًا ودائمًا على الاقتصادات والأسواق. بالنسبة للنمو العالمي، إزالة الحواجز التجارية تهدّئ المخاوف من الركود وتُعيد الثقة إلى قطاع الأعمال، مما يدعم الإنفاق الاستثماري والإنتاج. وقد ذكرت تقارير مصرفية أن تخفيف النزاع التجاري يزيل الرياح المعاكسة التي تواجه النمو ويقلل مخاطر الركود العالم.
هذا يعني بيئة مواتية للأسهم الأميركية على المدى الطويل مع تحسّن أرباح الشركات (نتيجة انحسار الرسوم والتكاليف الإضافية).
أيضًا الأسواق الناشئة ستكون أكبر المستفيدين من استقرار نظام التجارة العالمي، إذ سيؤدي ذلك إلى نمو الصادرات وتعافي القطاعات الصناعية فيها، فضلاً عن استقطابها استثمارات أجنبية جديدة.
أما أسعار النفط على المدى البعيد في هذا السيناريو، فستعتمد على أساسيات العرض والطلب الطبيعية بدلًا من الخوف من تدمير الطلب؛ ومع تحسّن النمو العالمي يُتوقع استمرار اتجاه صعودي معتدل للنفط مدعومًا بالطلب الحقيقي.
في المقابل، قد يشهد الذهب تراجعًا نسبيًا على المدى الطويل، حيث سيقل إقبال البنوك المركزية والمستثمرين على التحوّط طالما البيئة الجيوسياسية والاقتصادية أصبحت أكثر يقينًا. بالفعل لوحظ تاريخيًا أن أسعار الذهب تتراجع مع انحسار التوترات وتبدّد حالة الغموض. ومع ذلك، قد يبقى الذهب محتفظًا بجزء من مكاسبه الأخيرة بسبب عوامل أخرى كالسياسة النقدية أو الطلب في الأسواق الناشئة، لكن بغياب عامل الخوف التجاري سيفقد المعدن الأصفر أحد أهم دوافع ارتفاعه القياسية التي شهدها خلال فترة الحرب التجارية.
إجمالاً، سيناريو الاتفاقات التجارية يعني نقلة نحو وضع “Risk-On” في الأسواق: عودة الشهية للمخاطرة، تحسّن عام في تقييمات الأصول الخطرة، وانخفاض التقلبات المرتبطة بعناوين الحرب التجارية.
3. سيناريو فرض رسوم أحادية (تصعيد كامل للحرب التجارية):
الآثار قصيرة الأمد: يُعد هذا السيناريو الأسوأ للأسواق، حيث تلقت الأصول الخطرة ضربة قوية فور إعلان الرسوم التاريخية. فقد شهدنا في أوائل أبريل 2025 – مع إعلان ترمب تطبيق تعريفات تصل إلى 50% على نطاق واسع – موجة بيع مكثفة في الأسواق العالمية أدّت إلى خسارة تريليونات من القيمة السوقية خلال أيام.
تعرضت البورصات الأميركية والأوروبية والآسيوية لانخفاضات حادة؛ إذ تراجع مؤشر FTSE100 البريطاني بأكبر وتيرة يومية له خلال عامين (حوالي -3.7%)، وهوت المؤشرات اليابانية والأوروبية بنسب مماثلة. كما انخفضت العقود الآجلة لمؤشرات وول ستريت بشكل واضح مع توقع افتتاح مؤشر S&P 500 وDow Jones بهبوط يقارب 0.5-0.7% إضافية إثر الذعر.
في المقابل، اندفع المستثمرون نحو الملاذات الآمنة: حقق الذهب مستويات قياسية تاريخية جديدة مدفوعًا بتصاعد مخاوف الحرب التجارية. وقفز الطلب على السندات الحكومية الأميركية والدولار الأميركي والين.
أسعار النفط أيضًا تراجعت بشكل ملحوظ وسط هذه الفوضى؛ حيث انخفض خام برنت بنحو 3.8% في يوم واحد ليهبط إلى أدنى سعر له منذ أكثر من ثلاث سنوات. هذا التراجع الحاد في النفط يعكس توقعات المستثمرين بأن تصعيد الرسوم سيُضعف الاقتصاد العالمي ويكبح الطلب على الطاقة.
بالنسبة إلى الأسواق الناشئة، فقد تضررت بدورها بشدة في المدى القصير: انسحبت رؤوس الأموال منها إلى الملاذات الآمنة، وتكبدت أسواق الأسهم في آسيا وأميركا اللاتينية خسائر كبيرة. على سبيل المثال، شهدت بعض القطاعات الحساسة تجاريًا في الهند والصين هبوطًا حادًا – مؤشر الأسهم الهندية لقطاع الأدوية هبط بأكثر من 6% بعد شمول الأدوية ضمن التهديدات الجمركية – ما يعكس الضربة الواسعة النطاق التي لحقت بالأسواق الناشئة نتيجة هذا السيناريو.
الآثار طويلة الأمد: يُنذر فرض رسوم شاملة على هذا النحو بركود عالمي محتمل وتغيّر هيكلي في الاقتصاد الدولي. حذّر صندوق النقد الدولي صراحةً من أن هذه التعريفات الشاملة تمثّل "خطرًا كبيرًا على التوقعات العالمية". بالفعل، في أحدث تقاريره (أبريل 2025)، اضطر IMF لخفض توقعاته للنمو العالمي إلى 2.8% فقط لعام 2025 (وهو مستوى نمو نصف نقطة مئوية أدنى من تقديراته السابقة) بسبب هذه السياسات التجارية غير المسبوقة. جميع مناطق العالم بدون استثناء تواجه تأثيرات سلبية هذا العام والعام المقبل وفقًا للصندوق أبرز التداعيات الطويلة الأمد تشمل:
تباطؤ الاستثمار والإنتاج الصناعي عالميًا جراء ارتفاع تكاليف التجارة وعدم اليقين المستمر، ارتفاع الأسعار المحلية في العديد من البلدان نتيجة الرسوم (مما يغذي التضخم ويضعف القوة الشرائية)، واضطرار البنوك المركزية ربما إلى تخفيف سياساتها لدعم النمو الضعيف برغم التضخم المستورد.
بالنسبة إلى سوق النفط على المدى الطويل، فإن السيناريو قاتم؛ فمع انحسار الطلب العالمي بفعل الركود، يرجح الخبراء إمكانية انخفاض أسعار النفط إلى مستويات متدنية جدًا. تقدّر تحليلات بنك جولدمان ساكس أنه في حالة ركود عالمي مع تفكك اتفاقيات كبح الإنتاج، قد يتراجع سعر خام برنت إلى ما دون 40 دولارًا للبرميل بحلول عام 2026 في سيناريو متطرف – وهذا ليس السيناريو الأساسي ولكنه يبرز حجم المخاطر.
كذلك الأسهم الأميركية قد تدخل في سوق دبّية مطوّلة؛ حيث ستتأثر أرباح الشركات سلبًا بضعف الطلب العالمي وارتفاع تكاليف الواردات، وقد يستغرق تعافيها وقتًا طويلًا حتى بعد زوال الصدمة الأولية. ربما تستفيد مؤقتًا بعض القطاعات الدفاعية (كالسلع الاستهلاكية الأساسية والمرافق)، لكن الصورة العامة ستكون ضغطًا على تقييمات الأسهم بسبب تراجع النمو وخطر الركود.
الذهب على المدى الطويل سيظل على الأرجح مرتفع السعر تاريخيًا؛ إذ سيواصل المستثمرون التماس الأمان فيه كتحوّط ضد الاضطرابات الاقتصادية. بالفعل، خلال فترة التصعيد شهد الذهب ارتفاعًا بأكثر من 19% في الربع الأول من 2025 محققًا أفضل أداء فصلي منذ عام 1986 نتيجة الإقبال الكبير مدفوعًا بـ"تصاعد الضبابية الجيوسياسية والاقتصادية". هذه المعطيات تشير إلى أنه إذا استمرت الحرب التجارية بدون حل، فسيظل الذهب مستقرًا قرب ذرواته التاريخية أو يرتفع أكثر مع كل تصعيد إضافي. أما الأسواق الناشئة، فستكون الأكثر معاناة على المدى البعيد. كثير من الاقتصادات الناشئة تعتمد على صادرات السلع والتجارة العالمية كمحرك للنمو؛ ومع انهيار النظام التجاري متعدد الأطراف ودخول الرسوم حيز التنفيذ، ستواجه تلك الاقتصادات تباطؤًا حادًا. وقد أشار IMF إلى أن العديد من الأسواق الناشئة مرشحة لتراجعات كبيرة في النمو تبعًا لمآل التعريفات.
إضافة لذلك، سيزداد ضعف عملات الأسواق الناشئة أمام الدولار (ما لم يضعف الدولار هو الآخر نتيجة عوامل أخرى)، وقد تضطر بعض الدول الناشئة إلى رفع أسعار الفائدة لحماية عملاتها رغم تباطؤ اقتصادها، مما يعمّق التحديات. باختصار، سيناريو الرسوم الأحادية سيقود إلى إعادة تشكيل البيئة الاقتصادية العالمية بشكل يُضعف النمو على نطاق واسع، ويُبقي حالة عدم اليقين عالية، مما يضر بالأصول عالية المخاطر لفترة ممتدة.
ثانيًا: توسّع الحرب بين إسرائيل وإيران واحتمال دخول أمريكا مباشرة
إلى جانب الحرب التجارية، تزداد في الآونة الأخيرة المخاوف من توسّع صراع الشرق الأوسط ليشمل مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران وتدخل الولايات المتحدة عسكريًا. هذا التطور الجيوسياسي الخطير يحمل تداعيات واسعة على الأسواق العالمية أيضًا. سنحلل أدناه التأثير الفوري (قصير الأمد) لمثل هذا التصعيد العسكري الكبير على النفط والأسهم الأميركية والذهب والأسواق الناشئة، ثم التداعيات بعيدة المدى في حال استمرت أو توسعت رقعة النزاع.
التأثيرات الفورية (قصيرة الأمد) لحرب إقليمية موسّعة:
اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة في الخليج أو على الأراضي الإيرانية سيؤدي فورًا إلى صدمة قوية في الأسواق:
النفط: يُتوقع أن تقفز أسعار النفط بشكل حاد وفوري نتيجة الخوف من تعطل الإمدادات من منطقة الخليج. بالفعل، عندما تبادلت إسرائيل وإيران الضربات مؤخراً، ارتفع سعر النفط بنسبة تقارب 7% في يوم واحد، وحتى قبل أن تُمس البنية التحتية النفطية بشكل مباشر، فإن مجرد المخاوف من تعطل صادرات الشرق الأوسط رفعت أسعار النفط حوالي 9% في غضون أيام. هذا الارتفاع الفوري يعكس استباق الأسواق لاحتمال إغلاق مضيق هرمز أو تراجع صادرات النفط الإيرانية بشكل كامل. ومع دخول الولايات المتحدة على خط الحرب، ستتعاظم مخاطر انقطاع الإمدادات، مما قد يدفع النفط إلى قفزات سعرية إضافية في المدى القريب.
الأسهم الأميركية والعالمية: ستواجه ضغطًا بيعياً حادًا في ظل هذا السيناريو. سوف ينزع المستثمرون إلى التخلّص من الأصول عالية المخاطر والانتقال إلى وضعية "عزوف عن المخاطرة" فور اندلاع الحرب. وكما حصل عند الضربة الأولى بين إسرائيل وإيران، تعرضت الأصول الخطرة لهبوط حاد – حيث تراجعت الأسهم العالمية وانخفضت المؤشرات الرئيسية، بينما ارتفعت تقلبات السوق (مؤشر الخوف VIX بأعلى مستوى في 3 أسابيع). كذلك شهدت أسواق المنطقة ضربات: مؤشر تل أبيب تراجع في البداية قبل أن يستوعب الصدمة، وانخفضت الأسهم السعودية بحوالي 1.5% على الفور. لذلك من المتوقع أن مؤشرات وول ستريت ستنخفض بحدة في اليوم التالي لانتشار أنباء تدخل عسكري أميركي ضد إيران، مع قيادة قطاعات مثل شركات الطيران والسياحة والتكنولوجيا الانخفاض بسبب مخاوف من ارتفاع التكاليف واضطراب الاقتصاد.
الذهب والدولار (الملاذات الآمنة): سيقفز سعر الذهب فورًا إلى مستويات عالية جديدة مع إقبال المستثمرين على الملاذات الآمنة. وقد لوحظ بالفعل أنه عقب ضربات إسرائيل الأولى، اندفع المستثمرون نحو الذهب والدولار الأميركي بقوة كملاذ آمن. تخطى الذهب في تلك الأحداث مستوى 3200 دولار للأونصة وصولًا إلى قمم تاريخية جديدة، ويتوقع أن يكسر أرقامًا قياسية إضافية إذا تصاعد النزاع ليشمل قوى كبرى. كما سيعزز الطلب على الدولار وسندات الخزانة الأميركية والين الياباني وسائر الأصول الآمنة، مما قد يرفع قيمة الدولار (رغم أنه في حالة حرب ممتدة قد يتراجع لاحقًا بفعل عوامل اقتصادية أخرى). إجمالاً، البيئة الفورية ستكون “هروب إلى الجودة”: صعود الذهب والعملة الأميركية، وهبوط الأصول الخطرة.
الأسواق الناشئة: ستشهد نزوحًا فوريًا لرؤوس الأموال وارتفاعًا في علاوات المخاطر. تتعرض عملات وأسهم الأسواق الناشئة لضغوط بيع قوية في الأجواء الجيوسياسية المضطربة، خاصة تلك البعيدة عن مناطق الصراع ولكن المرتبطة بالمستثمرين العالميين. فمن جهة، ارتفاع أسعار النفط سيفيد الدول المصدّرة للنفط (بعض الأسواق الناشئة في الخليج مثلاً قد تصمد نسبيًا بفضل زيادة العائدات النفطية)، لكن في المقابل ستتضرر بشدة الأسواق الناشئة المستوردة للنفط (كالهند وتركيا وعدة دول آسيوية) إذ سيؤدي ارتفاع تكاليف الطاقة إلى اتساع عجز الميزان التجاري وضغوط على عملاتها. بشكل عام، سيؤدي انتقال المستثمرين إلى الأمان إلى انخفاض في مؤشرات الأسهم والسندات في الأسواق الناشئة وارتفاع تكاليف التمويل عليها في المدى القصير.
التداعيات طويلة الأمد لتوسع الحرب وترسّخها:
إذا ما تطورت الحرب إلى مواجهة مطولة بمشاركة أميركية مباشرة، فستكون الآثار الهيكلية على الأسواق عميقة وإن كانت مرهونة بمدة النزاع ونطاقه:
النفط: على المدى الطويل، ستعتمد أسعار النفط على حجم التعطل الفعلي للإمدادات ومدة الحرب. في سيناريو حرب خاطفة قصيرة يليها استقرار سياسي، قد تهدأ الأسعار نسبيًا بعد الصدمة الأولى وتعود إلى التوازن خلال أشهر (كما حدث تاريخيًا بعد حروب الخليج حيث قفز النفط عند الضربة ثم تراجع مع زوال الخطر المباشر). لكن في حال امتداد الصراع أو انخراط الولايات المتحدة في حرب شاملة ضد إيران، سنكون أمام احتمال غياب جزء كبير من إمدادات النفط الإيرانية (نحو 3-4 ملايين برميل يوميًا) عن السوق لفترة طويلة، بل وربما تهديد إمدادات دول أخرى عبر مضيق هرمز. في هذه الحالة يُتوقع أن يحافظ النفط على مستوى سعري مرتفع بشكل مستدام نتيجة علاوة مخاطر جيوسياسية دائمة تُضاف إلى السعر. هذا الارتفاع المزمن في أسعار الطاقة سيفرض عبئًا تضخميًا على الاقتصادات المستوردة للنفط، وقد يدفع الدول المستهلكة إلى السحب من احتياطياتها الاستراتيجية أو تسريع التحول نحو مصادر بديلة للطاقة، لكن هذه حلول لن تخفف الضغط إلا بعد وقت طويل. إذًا، مستقبل سوق النفط في ظل حرب إقليمية واسعة سيكون إلى حد بعيد “عصر أسعار مرتفعة” ما دام النزاع مشتعلاً أو التوتر قائم، مع احتمال بلوغ مستويات لم نشهدها منذ عقد أو أكثر بحسب شدة التعطيل في الإمدادات.
الأسهم الأميركية: التأثير بعيد المدى على وول ستريت سيتوقف على مسار الحرب ونتائجها. تاريخيًا، الأسواق تميل للانتعاش بعد استيعاب الصدمات الجيوسياسية إذا بقي الاقتصاد الأساسي متينًا. في حالة حرب سريعة وحاسمة (رغم كلفتها البشرية والمادية)، قد تشهد الأسهم الأميركية انتعاشًا تدريجيًا بعد بضعة أشهر من التقلب، خاصةً مع زيادة الإنفاق الحكومي (كالإنفاق الدفاعي الذي قد يُنعش شركات الصناعات العسكرية) وضمان استقرار إمدادات النفط عبر تحالفات جديدة.
لكن إن انزلقت الولايات المتحدة إلى حرب مطوّلة، فسيزداد عدم اليقين الاقتصادي: سترتفع النفقات العسكرية وعجز الموازنة الأميركية، وربما تزيد الضغوط على أسعار الفائدة على المدى الطويل. ارتفاع أسعار الطاقة لفترة طويلة سيقلّص هامش أرباح العديد من الشركات (ارتفاع تكاليف التشغيل)، ويضعف إنفاق المستهلكين، مما قد يقود الاقتصاد الأميركي نحو ركود تضخمي (ركود مصحوب بتضخم) أو نمو ضعيف على الأقل. لذا في المدى البعيد، قد تتأثر تقييمات الأسهم سلبًا نتيجة تراجع توقعات النمو وارتفاع تكاليف التمويل إذا اضطرت الحكومة للاقتراض بكثافة لتمويل الحرب. ومع ذلك، ينبغي الإشارة إلى أن البنوك المركزية – مثل الاحتياطي الفيدرالي – قد لا تبادر برفع أسعار الفائدة فقط بسبب صدمة نفطية مؤقتة، بل ستنظر إلى العوامل الأساسية للطلب. هذا يعني أنه إذا كان تأثير الحرب التضخمي مؤقتًا، فقد يتغاضى الفيدرالي عنه حفاظًا على النمو. في كل الأحوال، ستظل تقلبات الأسهم مرتفعة طيلة فترة النزاع، وسترتبط أي انتعاشة مستدامة للأسهم بحصول انفراج سياسي أو نهاية واضحة للحرب.
الذهب: سوف يكون الرابح الأكبر طويل الأمد في حالة استمرار التوتر الجيوسياسي. مع اتساع الحرب ودخول قوى كبرى، يعود الذهب ليؤدي دوره التاريخي كمخزن للقيمة وقت الأزمات. من المرجح أن يحافظ الذهب على مكاسبه وربما يسجّل ارتفاعات قياسية جديدة كلما طال أمد الحرب. وقد شهدنا خلال عام 2025 تسجيل الذهب لعشرات الأرقام القياسية بالفعل بدعم من الضبابية الجيوسياسية المتصاعدة. فالحرب الإقليمية ستزيد الطلب من المستثمرين والمؤسسات (بل وحتى البنوك المركزية التي قد تزيد مشترياتها من الذهب للتحوّط من الأخطار). على المدى البعيد، إذا نتج عن الحرب إعادة تشكيل للتحالفات الدولية أو ضعف عام في الثقة بالنظام المالي، فقد يصبح الذهب جزءًا أكبر من احتياطيات الدول كأصل استراتيجي، مما يدعم أسعاره لعقود. لكن يجدر التنويه أنه في حال انتهاء الحرب بشكل مفاجئ أو توقيع اتفاق سلام شامل، قد يتراجع الذهب من قممه سريعًا مع عودة الشهية للمخاطرة. بصفة عامة، كلما طال أمد حالة “عدم الاستقرار” عالمياً، سيبقى الذهب مرتفعًا والطلب عليه قويًا بوصفه ملاذ القيمة الآمن في أعين المستثمرين.
الأسواق الناشئة: التأثير بعيد المدى على الاقتصادات والأسواق الناشئة سيكون متباينًا ولكنه في المجمل سلبي. الدول الناشئة المصدّرة للنفط ستحقق مكاسب اقتصادية من ارتفاع أسعار الخام لفترة طويلة، مما يُحسّن موازينها التجارية ويعزز إيرادات حكوماتها (وهذا قد ينعكس إيجابًا على أسواقها المالية، كما يمكن أن نرى في بعض دول الخليج أو روسيا مثلاً ارتفاعًا للإيرادات وتحسّنًا مؤقتًا في مؤشراتها المالية). لكن معظم الدول الناشئة الأخرى ستكون خاسرة صافية: فارتفاع أسعار الطاقة عالميًا يضر بالنمو في الهند والصين Jوالاقتصادات الآسيوية المستوردة للطاقة، ويزيد عجز الحساب الجاري والتضخم فيها. كذلك، في جو حرب ممتدّة، يزداد تجنّب المستثمرين للمخاطر مما يعني خروج تدفقات رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة نحو الملاذات الآمنة لفترة طويلة. وهذا يمثل تحديًا لهذه البلدان في تمويل عجزها أو إعادة تمويل ديونها بالدولار. وقد تضطر بعض الأسواق الناشئة إلى رفع أسعار الفائدة الداخلية لحماية عملاتها من الانزلاق، مما يكبح نشاطها الاقتصادي الداخلي. بالإضافة إلى ذلك، اضطراب التجارة العالمية (إذا أُغلقت مسارات شحن أو فُرضت عقوبات على أطراف الحرب) سيؤثر على سلاسل الإمداد وقد يعيق صادرات بعض الدول الناشئة وصناعاتها – على غرار ما يحدث عند انقطاع إمدادات الطاقة أو ارتفاع أسعار المواد الخام بشكل مبالغ فيه. لكل ذلك، يمكن القول إن الأفق طويل الأمد للأسواق الناشئة سيكون قاتمًا في ظل حرب واسعة النطاق: نمو أضعف، عملات معرضة للضغوط، ارتفاع كلفة التأمين على الديون (CDS) نتيجة زيادة الأخطار، وربما تعثر بعض الاقتصادات الهشة التي لا تتحمل صدمة نفطية ومالية بهذا الحجم. ستتحسن الصورة فقط مع بزوغ حل للنزاع وتراجع أسعار النفط وتبدّد حالة الذعر، لكن الوصول إلى ذلك قد يستغرق سنوات تبعًا لسيناريو الحرب.
باختصار، توسع الحرب بين إسرائيل وإيران مع تورط أميركي مباشر سيخلق صدمة فورية في الأسواق: سترتفع أسعار النفط لمستويات مرتفعة جدًا بشكل مفاجئ، وستنخفض الأسهم بينما تصعد الملاذات الآمنة كالذهب والدولار. وعلى المدى الطويل، إذا استمر الصراع، سنشهد استدامة لهذه الاتجاهات بشكل متفاوت: نفط باهظ الثمن يضغط على الاقتصاد العالمي، أسهم متقلبة وضعيفة الأداء حتى تنجلي الضبابية، ذهب قوي بموقعه الآمن، ومعاناة للأسواق الناشئة تحت وطأة ارتفاع التكاليف وهروب الاستثمارات. أما في حال انتهاء التصعيد سريعًا، فقد تنعكس كثير من هذه الآثار مع عودة الاستقرار – لكن المستثمر الحصيف سيظل متنبّهًا لعامل المخاطرة الجيوسياسية عند تشكيل محافظه. كما أوصت بعض المؤسسات، بات من الحكمة الاحتفاظ بالتحوطات ضد التضخم والمخاطر مثل الذهب والنفط في المحافظ طويلة الأجل في هذه البيئة، نظرًا لاستمرار حالة عدم اليقين عالميًا.
المصادر: تم إعداد هذا التحليل بالاستناد إلى تقارير رسمية وتحليلات خبراء من وكالات أنباء وبيوت مال دولية مرموقة (رويترز، بلومبرغ، جولدمان ساكس، صندوق النقد الدولي وغيرها) لضمان دقة التوقعات والمعلومات